الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ وهل يلزمهم ـ أيضًا ـ أن يبيتوا بالمكان المذكور أم لا؟ وإن قيل باللزوم فاستخلف أحدهم من يقرأ عنه وظيفته في الوقف، والمكان، والواقف شرط في كتاب الوقف أن يستنيبوا في أوقات الضرورات، فما هي الضرورة التي تبيح النيابة؟ /وأيضًا، إن نقصهم الناظر من معلومهم الشاهد به كتاب الوقف، فهل يجوز أن ينقصوا مما شرط عليهم؟ وسواء كان النقص بسبب ضرورة، أو من اجتهاد الناظر، أو من غير اجتهاده، وليشف سيدنا بالجواب مستوعبًا بالأدلة، ويجلي به عن القلوب كل عسر مثابًا في ذلك. فأجاب: الحمد للّه رب العالمين، أصل هذه المسألة ـ وهو على أهل الأعمال التي يتقرب بها إلى اللّه ـ تعالى، والوصية لأهلها والنذر لهم ـ أن تلك الأعمال لابد أن تكون من الطاعات التي يحبها اللّه ورسوله، فإذا كانت منهيًا عنها لم يجز الوقف عليها، ولا اشتراطها في الوقف باتفاق المسلمين، وكذلك في النذر ونحوه، وهذا متفق عليه بين المسلمين في الوقف والنذر، ونحو ذلك، ليس فيه نزاع بين العلماء أصلًا. ومن أصول ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (مـن نـذر أن يطيـع اللّه فليطعه، ومـن نـذر أن يعصي اللّه فـلا يعصه). ومن أصوله ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين عن عائشة ـ أيضًا، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خطب على المنبر لما أراد أهل بريرة أن/ يشترطوا الولاء لغير المعتق ـ فقال: (ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب اللّه؟ من اشترط شرطًا ليس في كتاب اللّه فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب اللّه أحق، وشرط اللّه أوثق). وهذا الحديث الشريف المستفيض الذي اتفق العلماء على تلقيه بالقبول، اتفقوا على أنه عام في الشروط في جميع العقود، ليس ذلك مخصوصًا عند أحد منهم بالشروط في البيع، بل من اشترط في الوقف أو العتق أو الهبة أو البيع أو النكاح أو الإجارة أو النذر أو غير ذلك شروطًا تخالف ما كتبه اللّه على عباده، بحيث تتضمن تلك الشروط الأمر بما نهى اللّه عنه، أو النهي عما أمر به، أو تحليل ما حرمه، أو تحريم ما حلله، فهذه الشروط باطلة باتفاق المسلمين في جميع العقود، الوقف وغيره. وقد روي أهل السنن ـ أبو داود وغيره ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا أحل حراما، أو حرم حلالًا، والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا، أو حرم حلالًا). وحديث عائشة هو من العام الوارد على سبب، وهذا وإن كان أكثر العلماء يقولون: إنه يؤخذ فيه بعموم اللفظ، ولا يقتصر على سببه، فلا نزاع بينهم أن أكثر العمومات الواردة على أسباب لا تختص بأسبابها كالآيات النازلة بسبب معين، مثل آيات المواريث، والجهاد، والظهار، /واللعان، والقذف، والمحاربة، والقضاء، والفيء، والربا، والصدقات وغير ذلك، فعامتها نزلت على أسباب معينة مشهورة في كتب الحديث، والتفسير، والفقه، والمغازي، مع اتفاق الأمة على أن حكمها عام في حق غير أولئك المعينين، وغير ذلك مما يماثل قضاياهم من كل وجه. وكذلك الأحاديث، وحديث عائشة مما اتفقوا على عمومه، وأنه من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، وبعث بها حيث قال: (من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط اللّه أوثق). ولكن تنازعوا في العقود المباحات، كالبيع، والإجـارة، والنكاح: هل معني الحديث من اشترط شرطًا لم يثبت أنه خالف فيه شرعًا، أو من اشترط شرطًا يعلم أنه مخالف لما شرعه اللّه؟ هذا فيه تنازع؛ لأن قوله في آخر الحديث: (كتاب اللّه أحق، وشرط اللّه أوثق) يدل على أن الشرط الباطل ما خالف ذلك، وقوله: (من اشترط شرطًا ليس في كتاب اللّه فهو باطل) قد يفهم منه ما ليس بمشروع. وصاحب القول الأول يقول: ما لم ينه عنه من المباحات، فهو مما أذن فيه فيكون مشروعًا بكتاب اللّه، وأما ما كان في العقود التي يقصد بها/ الطاعات كالنذر، فلابد أن يكون المنذور طاعة، فمتى كان مباحًا لم يجب الوفاء به، لكن في وجوب الكفارة به نزاع مشهور بين العلماء، كالنزاع في الكفارة بنذر المعصية، لكن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به، ونذر المباح مخير بين الأمرين، وكذلك الوقف ـ أيضًا. وحكم الشروط فيه يعرف بذكر أصلين: أن الواقف إنما وقف الوقوف بعد موته لينتفع بثوابه، وأجره عند اللّه لا ينتفع به في الدنيا، فإنه بعد الموت لا ينتفع الميت إلا بالأجر والثواب. ولهذا فرق بين ما قد يقصد به منفعة الدنيا، وبين ما لا يقصد به إلا الأجر والثواب، فالأول، كالبيع، والإجارة، والنكاح، فهذا يجوز للإنسان أن يبذل ماله فيها ليحصل أغراضًا مباحة دنيوية، ومستحبة، ودينية، بخلاف الأغراض المحرمة. وأما الوقف فليس له أن يبذل ملكه إلا فيما ينفعه في دينه، فإنه إذا بذله فيما لا ينفعه في الدين، والوقف لا ينتفع به بعد موته في الدنيا، صار بذل المال لغير فائدة تعود إليه، لا في دينه، ولا في دنياه وهذا لا يجوز. ولهذا فرق العلماء بين الوقف على معين وعلى جهة، فلو وقف أو وصى لمعين جاز، وإن كان كافرًا ذميًا؛ لأن صلته مشروعة، كما دل على ذلك الكتاب والسنة في مثل قوله تعالى: فبين أن عطية مثل هؤلاء إنما يعطونها لوجه اللّه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (في كل ذات كبد رطبة أجر). فإذا أوصى أو وقف على معين، وكان كافرًا، أو فاسقًا، لم يكن الكفر والفسق هو سبب الاستحقاق، ولا شرطًا فيه، بل هو يستحق ما أعطاه وإن كان مسلمًا عدلًا، فكانت المعصية عديمة التأثير، بخلاف ما لو جعلها شرطًا في ذلك على جهة الكفار والفساق، أو على الطائفة الفلانية، بشرط أن يكونوا كفارًا أو فساقًا، فهذا الذي لا ريب في بطلانه عند العلماء. ولكـن تنازعـوا في الوقـف على جهـة مباحـة، كـالـوقـف على الأغنـياء على قـولين مشهورين، والصحيح الذي دل عليه الكتاب والسنة والأصول: أنه باطل ـ أيضًا؛ لأن اللّه ـ سبحانه ـ قال في مال الفيء: وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا سبق إلا في خف، أو حافر أو نصل). فإذا كان قد نهى عن بذل السبق إلا فيما يعين على الطاعة والجهاد، مع أنه بذل لذلك في الحياة وهو منقطع غير مؤبد، فكيف يكون الأمر في الوقف؟ ! وهذا بين في أصول الشريعة من وجهين: أحدهما: أن بذل المال لا يجوز إلا لمنفعة في الدين أو الدنيا، وهذا أصل متفق عليه بين العلماء، ومن خرج عن ذلك كان سفيهًا، وحجر عليه عند جمهور العلماء الذين يحجرون على السفيه، وكان مبذرًا لماله، وقد نهى اللّه في كتابه عن تبذير المال: وقد قال اللّه ـ تعالى ـ في كتابه: وقد قال كثير من الصحابة والتابعين ـ رضي اللّه عنهم ـ: هذا مثل توكيل السفيه، وهو أن يدفـع الرجـل مالـه إلى ولـده السفـيه أو امـرأته السفيهة، فينفقان عليه، ويكـون تحت أمرهما. وقال آخرون: ذلك أن يسلم إلى السفيه مال نفسه، فإن اللّه نهى عن تسليم مال نفسه إليه، إلا إذا أونس منه الرشد. والآية تدل على النوعين كليهما، فقد نهى اللّه أن يجعل السفيه متصرفًا لنفسه أو لغيره بالوكالة أو الولاية. وصرف المال فيما لا ينفع في الدين ولا الدنيا من أعظم السفه، فيكون ذلك منهيًا عنه في الشرع. إذا عرف هذا، فمن المعلوم أن الواقف لا ينتفع بوقفه في الدنيا، كما ينتفع بما يبذله في البيع والإجارة والنكاح، وهذا ـ أيضًا ـ لا ينتفع به في الدين إن لم ينفقه في سبيل اللّه، وسبيل اللّه طاعته وطاعة رسوله، فإن اللّه إنما يثيب العباد على ما أنفقوه فيما يحبه، وأما ما لا يحبه فلا ثواب في النفقة عليه. ونفقة/ الإنسان على نفسه وولده وزوجته واجبة؛ فلهذا كان الثواب عليها أعظم من الثواب على التطوعات على الأجانب. وإذا كان كذلك، فالمباحات التي لا يثيب الشارع عليها لا يثيب على الإنفاق فيها والوقف عليها، ولا يكون في الوقف عليها منفعة، وثواب في الدين، ولا منفعة في الوقف عليها في الدنيا، فالوقف عليها خال من انتفاع الواقف في الدين والدنيا، فيكون باطلًا، وهذا ظاهر في الأغنياء وإن كان قد يكون مستحبًا، بل واجبًا، فإنما ذاك إذا أعطوا بسبب غير الغني من القرابة والجهاد والدين ونحو ذلك. فأما إن جعل سبب الاستحقاق هو الغني، وتخصيص الغني بالإعطاء مع مشاركة الفقير له في أسباب الاستحقاق سوي الغني، مع زيادة استحقاق الفقير عليه، فهذا مما يعلم بالاضطرار في كل ملة أن اللّه لا يحبه ولا يرضاه، فلا يجوز اشتراط ذلك في الوقف. الوجه الثاني: أن الوقف يكون فيما يؤبد على الكفار ونحوهم، وفيما يمنع منه التوارث، وهذا لو أن فيه منفعة راجحة، وإلا كان يمنع منه الواقف؛ لأنه فيه حبس المال عن أهل المواريث، ومن ينتقل إليهم، وهذا مأخذ من قال: لا حبس عن فرائض اللّه، لكن هذا القول ترك لقول عمر وغيره، وما في ذلك من المصلحة الراجحة، فأما إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة، بل قد حبس المال/فمنعه الوارث وسائر الناس أن ينتفع به، وهو لم ينتفع به، فهذا لا يجوز تنفيذه بلا ريب. ثم هذه المسألة المتنازع فيها هي في الوقف على الصفات المباحة الدنيوية كالغني بالمال، وأما الوقف على الأعمال الدينية كالقرآن، والحديث، والفقه، والصلاة والأذان، والإمامة، والجهاد، ونحو ذلك، والكلام في ذلك هو الأصل الثاني، وذلك لا يمكن أن يكون في ذلك نزاع بين العلماء، في أنه لا يجوز أن يوقف إلا على ما شرعه اللّه وأحبه من هذه الأعمال. فأما من ابتدع عملًا لم يشرعه اللّه وجعله دينًا، فهذا ينهى عن عمل هذا العمل، فكيف يشرع له أن يقف عليه الأموال؟ ! بل هذا من جنس الوقف على ما يعتقده اليهود والنصارى عبادات، وهذا من الدين المبدل، أو المنسوخ؛ ولهذا جعلنا هذا أحد الأصلين في الوقف. وذلك أن باب العبادات والديانات والتقربات متلقاة عن اللّه ورسوله، فليس لأحد أن يجعل شيئًا عبادة أو قربة إلا بدليل شرعي، قال تعالى: والبدع جميعها كذلك، فإن البدعة الشرعية - أي: المذمومة في الشرع ـ هي ما لم يشرعه اللّه في الدين، أي: ما لم يدخل في أمر اللّه ورسوله وطاعة اللّه ورسوله، فأما إن دخل في ذلك فإنه من الشرعة لا من البدعة الشرعية، وإن كان قد فعل بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بما عرف من أمره، كإخراج اليهود والنصارى بعد موته، وجمع المصحف، وجمع الناس على قارئ واحد في قيام رمضان، ونحو ذلك. وعمر بن الخطاب الذي أمر بذلك وإن سماه بدعة؛ فإنما ذلك لأنه بدعة في اللغة، إذ كل أمر فعل على غير مثال متقدم يسمي في اللغة بدعة، وليس مما تسميه الشريعة بدعة، وينهى عنه، فلا يدخل فيما رواه مسلم من صحيحه عن جابر قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: (إن أصدق الكلام كلام اللّه، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة) حق، وليس فيما دلت عليه الأدلة الشرعية على الاستحباب بدعة، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أهل السنن، وصححه الترمذي عن العرباض بن سارية عن/ النبي صلى الله عليه وسلم قال: وعظنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول اللّه، كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: (أوصيكم بتقوى اللّه، وعليكم بالسمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)، وفي رواية: (فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، وفي رواية: (وكل ضلالة في النار). ففي هذا الحديث أمر المسلمين باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين، وبين أن المحدثات التي هي البدع التي نهى عنها ما خالف ذلك، فالتراويح ونحو ذلك لو لم تعلم دلالة نصوصه، وأفعاله عليها؛ لكان أدني أمرها أن تكون من سنة الخلفاء الراشدين، فلا تكون من البدع الشرعية التي سماها النبي صلى الله عليه وسلم بدعة، ونهى عنها. وبالجملة، لا خلاف بين العلماء أن من وقف على صلاة أو صيام أو قراءة أو جهاد غير شرعي ونحو ذلك لم يصح وقفه، بل هو ينهى عن ذلك العمل، وعن البذل فيه، والخلاف الذي بينهم في المباحات لا يخرج مثله هنا؛ لأن اتخاذ الشيء عبادة، واعتقاد كونه عبادة، وعمله؛ لأنه عبادة لا يخلو من أن يكون مأمورًا به، أو منهيًا عنه، فإن كان مأمورًا به ـ واجبًا /أو مستحبًا في الشريعة ـ كان اعتقاد كونه عبادة، والرغبة فيه لأجل العبادة، ومحبته وعمله مشروعًا، وإن لم يكن اللّه يحبه ولا يرضاه فليس بواجب ولا مستحب، لم يجز لأحد أن يعتقد أنه مستحب، ولا أنه قربة وطاعة، ولا يتخذه دينًا، ولا يرغب فيه لأجل كونه عبادة. وهذا أصل عظيم من أصول الديانات، وهو التفريق بين المباح الذي يفعل لأنه مباح، وبين ما يتخذ دينا وعبادة وطاعة وقربة واعتقادًا ورغبة وعملًا. فمن جعل ما ليس مشروعًا ولا هو دينا ولا طاعة ولا قربة جعله دينًا وطاعة وقربة، كان ذلك حرامًا باتفاق المسلمين. لكن قد يتنازع العلماء في بعض الأمـور: هل هـو من باب القـرب والعبادات أم لا؟ سواء كان من باب الاعتقادات القولية، أو من باب الإرادات العملية حتى قد يرى أحدهم واجبًا ما يراه الآخر حرامًا، كما يرى بعضهم وجوب قتل المرتد، ويرى آخر تحريم ذلك، ويرى أحدهم وجوب التفريق بين السكران وامرأته إذا طلقها في سكره، ويرى الآخر تحريم التفريق بينهما، وكما يرى أحدهم وجوب قراءة فاتحة الكتاب على المأموم ويرى الآخر كراهة قراءته إما مطلقًا، وإما إذا سمع جهر الإمام، ونحو ذلك من موارد النزاع. كما أن اعتقادها وعملها من موارد النزاع، فبذل المال عليها هو من موارد النزاع ـ أيضًا ـ وهو الاجتهادية. / وأما كل عمل يعلم المسلم أنه بدعة منهي عنها، فإن العالم بذلك لا يجوز الوقف باتفاق المسلمين، وإن كان قد يشرط بعضهم بعض هذه الأعمال من لم يعلم الشريعة، أو من هو يقلد في ذلك لمن لا يجوز تقليده في ذلك، فإن هذا باطل، كما قال عمر بن الخطاب: ردوا الجهالات إلى السنة. ولما في الصحيح عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد). ولهذا اتفق العلماء: أن حكم الحاكم العادل إذا خالف نصَّا أو إجماعًا لم يعلمه فهو منقوض، فكيف بتصرف من ليس يعلم هذا الباب من واقف لا يعلم حكم الشريعة، ومن يتولي ذلك له من وكلائه؟ ! وإن قدر أن حاكمًا حكم بصورة ذلك ولزومه فغايته أن يكون عالمًا عادلًا، فلا ينفذ ما خالف فيه نصًا أو إجماعًا باتفاق المسلمين. والشروط المتضمنة للأمر بما نهى اللّه عنه، والنهي عن ما أمر اللّه به مخالفة للنص والإجماع، وكل ما أمر اللّه به أو نهى عنه، فإن طاعته فيه بحسب الإمكان، كما قال تعالى: /فهذه القواعد هي الكلمات الجامعة والأصول الكلية التي تبني عليها هذه المسائل ونحوها، وقد ذكرنا منها نكتًا جامعة بحسب ما تحتمله الورقة يعرفها المتدرب في فقه الدين. وبعد هذا ينظر في تحقيق مناط الحكم في صورة السؤال وغيرها بنظره، فما تبين أنه من الشروط الفاسدة ألغي، وما تبين أنه شرط موافق لكتاب اللّه عمل به، وما اشتبه أمره أو كان فيه نزاع فله حكم نظائره، ومن هذه الشروط الباطلة ما يحتاج تغييره إلى همة قوية وقدرة نافذة، ويؤيدها اللّه بالعلم والدين، وإلا فمجرد قيام الشخص في هوي نفسه لجلب دنيا، أو دفع مضرة دنيوية، إذا أخرج ذلك مخرج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يكاد ينجح سعيه. وإن كان متظلمًا طالبًا من يعينه، فإن أعانه اللّه بمن هو متصف بذلك، أو بما يقدره له من جهة تعينه حصل مقصوده. ولا حول ولا قوة إلا باللّه. وما ذكره السائلون فرض تمام الوجود، واللّه يسهل لهم ولسائر المسلمين من يعينهم على خير الدين والدنيا، إنه على كل شيء قدير. فمما لا نزاع فيـه بين العلماء: أن مبيت الشخص في مكان معين دائمًا ليس قربـة ولا طاعة باتفاق العلماء، ولا يكون ذلك إلا في بعض الأوقات إذا كان في التعيين مصلحة شرعية، مثل المبيت في ليإلى منى، ومثل/ مبيت الإنسان في الثغر للرباط، أو مبيته في الحرس في سبيل اللّه، أو عند عالم أو رجل صالح ينتفع به، ونحو ذلك. فإما أن المسلم يجب عليه أن يرابط دائما ببقعة بالليل لغير مصلحة دينية فهذا ليس من الدين، بل لو كان المبيت عارضًا وكان يشرع فيها ذلك؛ لم يكن أيضًا من الدين، ومن شرط عليه ذلك، ووقف عليه المال لأجل ذلك؛ فلا ريب في بطلان مثل هذا الشرط وسقوطه. بل تعيين مكان معين للصلوات الخمس، أو قراءة القرآن، أو إهدائه غير ما عينه الشارع ليس ـ أيضًا ـ مشروعًا باتفاق العلماء، حتى لو نذر أن يصلى أو يقرأ، أو يعتكف في مسجد بعينه غير الثلاثة، لم يتعين، وله أن يفعل ذلك في غيره؛ لكن في وجوب الكفارة لفوات التعيين قولان للعلماء. والعلماء لهم في وصول العبادات البدنية، كالقراءة، والصلاة، والصيام إلى الميت قولان: أصحهما أنه يصل؛ لكن لم يقل أحد من العلماء بالتفاضل في مكان دون مكان، ولا قال أحد قط من علماء الأمة المتبوعين: إن الصلاة أو القراءة عند القبر أفضل منها عند غيره، بل القراءة عند القبر قد اختلفوا في كراهتها، فكرهها أبو حنيفة ومالك والإمام أحمد ـ في إحدى الروايتين ـ وطوائف من السلف، ورخص فيها طائفة أخري/ من أصحاب أبي حنيفة والإمام أحمد وغيرهم، وهو إحدى الروايتين عن أحمد وليس عن الشافعي في ذلك كله نص نعرفه. ولم يقل أحد من العلماء: إن القراءة عند القبر أفضل، ومن قال: إنه عند القبر ينتفع الميت بسماعها، دون ما إذا بعد القارئ فقوله هذا بدعة باطلة، مخالفة لإجماع العلماء، والميت بعد موته لا ينتفع بأعمال يعملها هو بعد الموت، لا من استماع، ولا قراءة، ولا غير ذلك باتفاق المسلمين، وإنما ينتفع بآثار ما عمله في حياته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم ـ انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له). وينتفع ـ أيضًا ـ بما يهدي إليه من ثواب العبادات المالية، كالصدقة، والهبة باتفاق الفقهاء، وكذلك العبادات البدنية في أصح قوليهم، وإلزام المسلمين ألا يعملوا ولا يتصدقوا إلا في بقعة معينة، مثل كنائس النصارى باطل. وبكل حال، فالاستخلاف في مثل هذه الأعمال المشروطة جائز، وكونها عن الواقف إذا كان النائب مثل المستنيب، فقد يكون في ذلك مفسدة راجحة على المصلحة الشرعية، كالأعمال المشروطة في الإجارة على عمل في الذمة؛ لأن/التعيين فيه مصلحة شرعية، فشرط باطل، ومتى نقصوا من المشروط لهم كان لهم أن ينقصوا من المشروط عليهم بحسب ذلك. واللّه أعلم.
قاعدة: فيما يشترط الناس في الوقف: فإن فيها ما فيه عوض دنيوي وأخروي، وما ليس كذلك، وفي بعضها تشديد على الموقوف عليه. فنقول: الأعمال المشروطة في الوقف على الأمور الدينية مثل الوقف على الأئمة والمؤذنين، والمشتغلين بالعلم مـن القـرآن، والحديث، والفقـه، ونحو ذلك، أو بالعبادات أو بالجهاد في سبيل اللّه تنقسم ثلاثة أقسام: أحدها: عمل يقترب به إلى اللّه ـ تعالى، وهو الواجبات والمستحبات التي رغب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيها، وحض على تحصيلها، فمثل هذا الشرط يجب الوفاء به، ويقف استحقاق الوقف على حصوله في الجملة. والثاني: عمل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه نهى تحريم أو نهى تنزيه، فاشتراط مثل هذا العمل باطل باتفاق العلماء؛ لما قد استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب على منبره فقال: / (ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب اللّه، من اشترط شرطًا ليس في كتاب اللّه فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب اللّه أحق، وشرط اللّه أوثق). وهذا الحديث وإن خرج بسبب شرط الولاء لغير المعتق، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ـ عند عامة العلماء ـ وهو مجمع عليه في هذا الحديث. وكذا ما كان من الشروط مستلزمًا وجود ما نهى عنه الشارع، فهو بمنزلة ما نهى عنه، وما علم أنه نهى عنه ببعض الأدلة الشرعية، فهو بمنزلة ما علم أنه صرح بالنهي عنه، لكن قد يختلف اجتهاد العلماء في بعض الأعمال: هل هو من باب المنهي عنه؟ فيختلف اجتهادهم في ذلك الشرط؛ بناء على هذا. وهذا أمر لابد منه في الأمة. ومن هذا الباب أن يكون العمل المشترط ليس محرمًا في نفسه، لكنه مناف لحصول المقصود المأمور به، ومثال هذه الشروط أن يشترط على أهل الرباط ملازمته وهذا مكروه في الشريعة مما أحدثه الناس، أو يشترط على الفقهاء اعتقاد بعض البدع المخالفة للكتاب والسنة، أو بعض الأقوال المحرمة، أو يشترط على الإمام أو المؤذن ترك بعض سنن الصلاة، والأذان، أو فعل بعض بدعهما، مثل أن يشترط على الإمام أن يقرأ في الفجر بقصار المفصل، أو أن يصل الأذان بذكر غير مشروع، أو أن يقيم صلاة العيد في المدرسة أو المسجد، مع إقامة المسلمين لها على سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. /ومن هذا الباب: أن يشترط عليهم أن يصلوا وحدانا، ومما يلحق بهذا القسم أن يكون الشرط مستلزمًا ترك ما ندب إليه الشارع، مثل أن يشترط على أهل رباط أو مدرسة إلى جانب المسجد الأعظم أن يصلوا فيها فرضهم، فإن هذا دعاء إلى ترك الفرض على الوجه الذي هو أحب إلى اللّه ورسوله، فلا يلتفت إلى مثل هذا، بل الصلاة في المسجد الأعظم هو الأفضل، بل الواجب هدم مساجد الضرار مما ليس هذا موضع تفصيله. ومن هذا الباب اشتراط الإيقاد على القبور ـ إيقاد الشمع، أو الدهن ونحو ذلك ـ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن اللّه زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد، والسرج) وبناء المسجد، وإسراج المصابيح على القبور، مما لم أعلم فيه خلافًا أنه معصية للّه ورسوله، وتفاصيل هذه الشروط يطول جدًا، وإنما نذكر هاهنا جماع الشروط. القسم الثالث: عمل ليس بمكروه في الشـرع ولا مستحب، بل هو مباح مستوي الطرفين، فهذا قال بعض العلماء بوجوب الوفاء به. والجمهور من العلماء ـ من أهل المذاهب المشهورة وغيرهم ـ على أن شرطه باطل، فلا يصح عندهم أن يشرط إلا ما كان قربة إلى اللّه ـ تعالى؛ وذلك لأن الإنسان ليس له أن يبذل ماله إلا لما له فيه منفعة في الدين أو الدنيا، فما دام/ الإنسان حيًا، فله أن يبذل ماله في تحصيل الأغراض المباحة؛ لأنه ينتفع بذلك، فأما الميت فما بقي بعد الموت ينتفع من أعمال الأحياء؛ إلا بعمل صالح قد أمر به، أو أعان عليه، أو أهدي إليه، ونحو ذلك. فأما الأعمال التي ليست طاعة للّه ورسوله، فلا ينتفع بها الميت بحال، فإذا اشترط الموصى أو الواقف عملًا أو صفة لا ثواب فيها؛ كان السعي في تحصيلها سعيًا فيما لا ينتفع به في دنياه ولا في آخرته، ومثل هذا لا يجوز، وهذا إنما مقصوده بالوقف التقرب. واللّه أعلم.
/فأجاب: الحمد للّه، الأصل في هذا: أن كل ما شرط من العمل من الوقوف التي توقف على الأعمال فلابد أن تكون قربة، إما واجبًا، وإما مستحبًا، وأما اشتراط عمل محرم، فلا يصح باتفاق علماء المسلمين، بل وكذلك المكروه، وكذلك المباح على الصحيح. وقد اتفق المسلمون على أن شروط الواقف تنقسم إلى صحيح، وفاسد، كالشروط في سائر العقود. ومن قال من الفقهاء: إن شروط الواقف نصوص كألفاظ الشارع، فمراده أنها كالنصوص في الدلالة على مراد الواقف؛ لا في وجوب العمل بها، أي: أن مراد الواقف يستفاد من ألفاظه المشروطة، كما يستفاد مراد الشارع من ألفاظه، فكما يعرف العموم والخصوص والإطلاق والتقييد والتشريك والترتيب في الشرع من ألفاظ الشارع، فكذلك تعرف في الوقف من ألفاظ الواقف. مع أن التحقيق في هذا: أن لفظ الواقف ولفظ الحالف والشافع والموصى وكل عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها، سواء وافقت العربية العرباء؛ أو العربية المولدة، أو العربية الملحونة، أو كانت غير عربية، وسواء وافقت لغة الشارع، أو لم توافقها، فإن المقصود من الألفاظ دلالتها على مراد الناطقين بها، فنحن نحتاج إلى معرفة كلام الشارع؛ لأن معرفة لغته وعرفه وعادته تدل على معرفة مراده، وكذلك في/خطاب كل أمة وكل قوم، فإذا تخاطبوا بينهم في البيع والإجارة، أو الوقف أو الوصية أو النذر أو غير ذلك بكلام رجع إلى معرفة مرادهم وإلى ما يدل على مرادهم من عادتهم في الخطاب، وما يقترن بذلك من الأسباب. وإما أن تجعل نصوص الواقف أو نصوص غيره من العاقدين كنصوص الشارع في وجوب العمل بها، فهذا كفر باتفاق المسلمين؛ إذ لا أحد يطاع في كل ما يأمر به من البشر? ـ بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ والشروط إن وافقت كتاب اللّه كانت صحيحة، وإن خالفت كتاب اللّه كـانت باطلة، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنـه خطب على منـبره وقـال: (ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب اللّه؟ ! من اشترط شرطًا ليس في كتاب اللّه فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب اللّه أحق، وشرط اللّه أوثق). وهذا الكلام حكمه ثابت في البيع والإجارة، والوقف وغير ذلك باتفاق الأئمة، سواء تناوله لفظ الشارع أو لا؛ إذ الأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، أو كان متناولًا لغير الشروط في البيع بطريق الاعتبار عمومًا معنويًا. /وإذا كانت شروط الواقف تنقسم إلى صحيح وباطل بالاتفاق، فإن شرط فعلًا محرمًا ظهر أنه باطل، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإن شرط مباحًا لا قربة فيه، كان ـ أيضًا ـ باطلًا؛ لأنه شرط شرطًا لا منفعة فيه، لا له ولا للموقوف عليه، فإنه في نفسه لا ينتفع إلا بالإعانة على البر والتقوي. وأما بذل المال في مباح، فهذا إذا بذله في حياته مثل الابتياع والاستئجار. جاز؛ لأنه ينتفع بتناول المباحات في حياته. وأما الواقف والموصي، فإنهما لا ينتفعان بما يفعل الموصى له والموقوف عليه من المباحات في الدنيا، ولا يثابان على بذل المال في ذلك في الآخرة، فلو بذل المال في ذلك عبثًا وسفهًا لم يكن فيه حجة على تناول المال، فكيف إذا ألزم بمباح لا غرض له فيه، فلا هو ينتفع به في الدنيا، ولا في الآخرة، بل يبقي هذا منفقًا للمال في الباطل، مسخر، معذب، آكل للمال بالباطل. وإذا كان الشارع قد قال: (لا سبق إلا في خف؛ أو حافر، أو نصل)، فلم يجوز بالجعل شيئًا لا يستعان به على الجهاد، وإن كان مباحًا، وقد يكون فيه منفعة، كما في المصارعة، والمسابقة على الأقدام، فكيف يبذل العوض المؤبد في عمل لا منفعة فيه، لا سيما والوقف محبس مؤبد، فكيف يحبس المال/دائما مؤبدًا على عمل لا ينتفع به هو ولا ينتفع به العامل؟ ! فيكون في ذلك ضرر على حبس الورثة وسائر الآدميين بحبس المال عليهم بلا منفعة حصلت لأحد، وفي ذلك ضرر على المتناولين باستعمالهم في عمل هم فيه مسخرون، يعوقهم عن مصالحهم الدينية والدنيوية، فلا فائدة تحصل له ولا لهم، وقد بسطنا الكلام في هذه القاعدة في غير هذا الموضع. فإذا عرف هذا، فقراءة القرآن كل واحد على حدته أفضل من قراءة مجتمعين بصوت واحد، فإن هذه تسمي [قراءة الإرادة] وقد كرهها طوائف من أهل العلم، كمالك، وطائفة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم. ومن رخص فيها ـ كبعض أصحاب الإمام أحمد ـ لم يقل: إنها أفضل من قراءة الانفراد، يقرأ كل منهم جميع القرآن. وأما هذه القراءة فلا يحصل لواحد جميع القرآن، بل هذا يتم ما قرأه هذا، وهذا يتم ما قرأه هذا، ومن كان لا يحفظ القرآن يترك قراءة ما لم يحفظه. وليس في القراءة بعد المغرب فضيلة مستحبة يقدم بها على القراءة في جوف الليل، أو بعد الفجر، ونحو ذلك من الأوقات، فلا قربة في تخصيص مثل ذلك بالوقت. ولو نذر صلاة أو صيامًا أو قراءة أو اعتكافًا في مكان بعينه، فإن/ كان للتعيين مزية في الشرع، كالصلاة، والاعتكاف في المساجد الثلاثة؛ لزم الوفاء به، وإن لم يكن له مزية، كالصلاة والاعتكاف في مساجد الأمصار؛ لم يتعين بالنذر الذي أمر اللّه بالوفاء به، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع اللّه فليطعه، ومن نذر أن يعصي اللّه فلا يعصه). فإذا كان النذر الذي يجب الوفاء به لا يجب أن يوفى به إلا ما كان طاعة باتفاق الأئمة، فلا يجب أن يوفي منه بمباح، كما لا يجب أن يوفي منه بمحرم باتفاق العلماء في الصورتين، وإنما تنازعوا في لزوم الكفارة، كمذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، فكيف بغير النذر من العقود التي ليس في لزومها من الأدلة الشرعية ما في النذر؟ ! وأما اشتراط إهداء ثواب التلاوة، فهذا ينبني على إهداء ثواب العبادات البدنية، كالصلاة، والصيام، والقراءة، فإن العبادات المالية يجوز إهداء ثوابها بلا نزاع، وأما البدنية ففيها قولان مشهوران. فمن كان من مذهبه: أنه لا يجوز إهداء ثوابها ـ كأكثر أصحاب مالك، والشافعي ـ كان هذا الشرط عندهم باطلًا، كما لو شرط أن يحمل عن الواقف ديونه، فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى. ومن كان من مذهبه: أنه يجوز إهداء ثواب العبادات البدنية ـ كأحمد/وأصحاب أبي حنيفة، وطائفة من أصحاب مالك ـ فهذا يعتبر أمرًا آخر، وهو أن هذا إنما يكون من العبادات ما قصد بها وجه اللّه، فأما ما يقع مستحقًا بعقد إجارة أو جعالة فإنه لا يكون قربة، فإن جاز أخذ الأجر والجعل عليه، فإنه يجوز الاستئجار على الإمامة، والأذان، وتعليم القرآن، نقول: . . .
فأجاب: ليس هذا شرطًا صحيحًا يقف الاستحقاق عليه، كما كان يفتي بذلك في هذه الصورة بعينها الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وغيره من العلماء؛ لأدلة متعددة، وقد بسطناها في غير هذا الموضع مع ما في ذلك من أقوال العلماء. ويجوز للمنزلين أن يصلوا في المسجد الأقصى الصلوات الخمس، ولا يصلوها في المدرسة، ويستحقون مع ذلك ما قدر لهم، وذلك أفضل لهم /من أن يصلوا في المدرسة، والامتناع من أداء الفرض في المسجد الأقصي، لأجل حل الجاري، ورع فاسد، يمنع صاحبه الثواب العظيم في الصلاة في المسجد. واللّه أعلم.
فأجاب ـ رحمه اللّه: لا يجوز للناظر إحداث هذه الشروط ولا غيرها، فإن الناظر إنما هو منفذ لما شرطه الواقف، ليس له أن يبتدئ شروطًا لم يوجبها الواقف، ولا أوجبها الشارع، ويأثم من أحدثها، فإنه منع المستحقين حقهم حتى يعملوا أعمالًا لا تجب، ولا يحل أن يكتب على من أخل بذلك غيبة؛ بل يجب إبطال هذه الشروط، ويثاب الساعي في إبطالها مبتغيًا بذلك وجه اللّه ـ تعالى. وأما الصوفي الذي يدخل في الوقف على الصوفية، فيعتبر له ثلاثة شروط. أحدها: أن يكون عدلًا في دينه، يؤدي الفرائض، ويجتنب المحارم. الثاني: أن يكون ملازمًا لغالب الآداب الشرعية في غالب الأوقات وإن لم تكن واجبة، مثل آداب الأكل، والشرب، واللباس، والنوم، /والسفر، والركوب والصحبة، والعشرة، والمعاملة مع الخلق، إلى غير ذلك من الآداب الشريفة، قولًا وفعلًا، ولا يلتفت إلى ما أحدثه بعض المتصوفة من الآداب التي لا أصل لها في الدين، من التزام شكل مخصوص في اللبسة، ونحوها مما لا يستحب في الشريعة، فإن مبني الآداب على اتباع السنة، ولا يلتفت ـ أيضًا ـ إلى ما يهدره بعض المتفقهة من الآداب المشروعة، يعتقد ـ لقلة علمه أن ذلك ليس من آداب الشريعة؛ لكونه ليس فيما بلغه من العلم أو طالعه من كتبه، بل العبرة في الآداب بما جاءت به الشريعة قولًا وفعلًا وتركًا، كما أن العبرة في الفرائض والمحارم بذلك ـ أيضًا. والشرط الثالث في الصوفي: قناعته بالكفاف من الرزق، بحيث لا يمسك من الدنيا ما يفضل عن حاجته، فمن كان جامعًا لفضول المال لم يكن من الصوفية الذين يقصد إجراء الأرزاق عليهم، وإن كان قد يفسح لهم في مجرد السكني في الربط ونحوها، فمن حمل هذه الخصال الثلاث كان من الصوفية المقصودين بالربط، والوقف عليها، وما فوق هؤلاء من أرباب المقامات العلية والأحوال الزكية، وذوي الحقائق الدينية، والمنح الربانية، فيدخلون في العموم؛ لكن لا يختص الوقف بهم لقلة هؤلاء، ولعسر تمييز الأحوال الباطنة على غالب الخلق، فلا يمكن ربط استحقاق الدنيا بذلك؛ ولأن مثل هؤلاء قد لا ينزل الربط إلا نادرًا. وما دون هذه الصفات من المقتصرين على مجرد رسم في لبسة أو مشية، ونحو ذلك، لا يستحقون الوقف، ولا يدخلون في مسمي الصوفية؛ لا سيما / إن كان ذلك محدثًا لا أصل له في السنة، فإن بذل المال على مثل هذه الرسوم فيه نوع من التلاعب بالدين، وأكل لأموال الناس بالباطل، وصدود عن سبيل اللّه. ومن كان من الصوفية المذكورين المستحقين فيه قدر زائد، مثل اجتهاد في نوافل العبادات؛ أو سعى في تصحيح أحوال القلب، أو طلب شيء من الأعيان، أو علم الكفاية، فهو أولى من غيره، ومن لم يكن متأدبًا بالآداب الشرعية، فلا يستحق شيئًا البتة، وطالب العلم الذي ليس له تمام الكفاية أولى ممن ليس فيه الآداب الشرعية، ولا علم عنده، بل مثل هذا لا يستحق شيئًا.
|